قصة الورقة الضائعة
للعلامة المحدث
: محمد ناصر الدين الألباني
يروي الشيخ العلامة الألباني -رحمه الله تعالى- في
مقدمة كتابه ( فهرس مخطوطات المكتبة الظاهرية) فيقول :
( ولم يكن ليخطر ببالي ،
وضع مثل هذا الفهرس ، لأنه ليس من اختصاصي ، وليس عندي متسع من الوقت ليساعدني عليه
، ولكن الله تبارك وتعالى إذا أراد شيئاً هيّأ أسبابه ، فقد ابتليت بمرض خفيف أصاب
بصري ، منذ أكثر من اثني عشر عاماً ، فنصحني الطبيب المختص بالراحة وترك القراءة
والكتابة والعمل في المهنة ( تصليح الساعات ) مقدار ستة أشهر .
فعملت
بنصيحته أول الأمر ، فتركت ذلك كله نحو أسبوعين ، ثم أخذت نفسي تراودني ، وتزين لي
أن أعمل شيئاً في هذه العطلة المملة ، عملاً لا ينافي بزعمي نصيحته ، فتذكرت رسالة
مخطوطة في المكتبة، اسمها (ذم الملاهي) للحافظ ابن أبي الدنيا ، لم تطبع فيما أعلم
يومئذ ، فقلت : ما المانع من أن أكلف من ينسخها لي ؟ وحتى يتم نسخها ، ويأتي وقت
مقابلتها بالأصل ، يكون قد مضى زمن لا بأس به من الراحة ، فبإمكاني يومئذ مقابلتها
، وهي لا تستدعي جهداً ينافي الوضع الصحي الذي أنا فيه ، ثم أحققها بعد ذلك على مهل
، وأخرج أحاديثها ، ثم نطبعها ، وكل ذلك على فترات لكي لا أشق على نفسي !
فلما
وصل الناسخ إلى منتصف الرسالة ، أبلغني أن فيها نقصاً ، فأمرته بأن يتابع نسخها حتى
ينتهي منها ، ثم قابلتها معه على الأصل ، فتأكدت من النقص الذي أشار إليه ، وأقدره
بأربع صفحات في ورقة واحدة في منتصف الكراس ، فأخذت أفكر فيها ، وكيف يمكنني العثور
عليها ؟ .
والرسالة محفوظة في مجلد من المجلدات الموضوعة في المكتبة تحت
عنوان ( مجاميع ) ، وفي كل مجلد منها على الغالب عديد من الرسائل والكتب ، مختلفة
الخطوط والمواضيع ، والورق لوناً وقياساً ، فقلت في نفسي ، لعل الورقة الضائعة قد
خاطها المجلد سهواً في مجلد آخر ، من هذه المجلدات ! ، فرأيتني مندفعاً بكل رغبة
ونشاط باحثاً عنها فيها ، على التسلسل .
ونسيت أو تناسيت نفسي ، والوضع
الصحي الذي أنا فيه ! .
فإذا ما تذكرته ، لم أعدم ما أتعلل به ، من مثل
القول بأن هذا البحث لا ينافيه ، لأنه لا يصحبه كتابة ولا قراءة مضنية
!.
وما كدت أتجاوز بعض المجلدات ، حتى أخذ يسترعي انتباهي عناوين بعض
الرسائل والمؤلفات ، لمحدثين مشهورين ، وحفاظ معروفين ، فأقف عندها ، باحثاً لها ،
دارساً إياها ، فأتمنى لو أنها تنسخ وتحقق ، ثم تطبع ، ولكني كنت أجدها في غالب
الأحيان ناقصة الأطراف والأجزاء ، فأجد الثاني دون الأول مثلاً ، فلم أندفع
لتسجيلها عندي ، وتابعت البحث عن الورقة الضائعة ، ولكن عبثاً حتى انتهت مجلدات (
المجاميع ) البالغ عددها ( 152) مجلداً ، بيد أني وجدتني في أثناء المتابعة أخذت
أسجل في مسودتي عناوين بعض الكتب التي راقتني ، وشجعني على ذلك ، أنني عثرت في
أثناء البحث فيها على بعض النواقص التي كانت من قبل من الصوارف عن التسجيل
.
ولما لم أعثر على الورقة في المجلدات المذكورة ، قلت في نفسي : لعلها خيطت
خطأ في مجلد من مجلدات الحديث ، والمسجلة في المكتبة تحت عنوان (حديث) !.
فأخذت
أقلبها مجلداً مجلداً ، حتى انتهيت منها دون أن أقف عليها ، لكني سجلت عندي ما شاء
الله من المؤلفات والرسائل .
وهكذا لم أزل أعلل النفس وأمنيها بالحصول على
الورقة ، فأنتقل في البحث عنها بين مجلدات المكتبة ورسائلها من علم إلى آخر ؛ حتى
أتيت على جميع المخطوطات المحفوظة في المكتبة ، والبالغ عددها نحو عشرة آلاف
(10000) مخطوط ، دون أن أحظها بها ! .( قلت : لعلها أحظى بها ) .
ولكني لم
أيأس بعد ، فهناك ما يعرف بـ (الدست) ، وهو عبارة عن مكدسات من الأوراق والكراريس
المتنوعة التي لا يعرف أصلها ، فأخذت في البحث فيها بدقة وعناية ، ولكن دون جدوى
.
وحينئذ يأست من الورقة ، ولكني نظرت فوجدت أن الله تبارك وتعالى قد فتح لي
من ورائها باباً عظيماً من العلم ، طالما كنت غافلاً عنه كغيري ، وهو أن في المكتبة
الظاهرية كنوزاً من الكتب والرسائل في مختلف العلوم النافعة التي خلفها لنا أجدادنا
رحمهم الله تعالى ، وفيها من نوادر المخطوطات التي قد لا توجد في غيرها من المكتبات
العالمية ، مما لم يطبع بعد .
فلما تبين لي ذلك واستحكم في قلبي ، استأنفت
دراسة مخطوطات المكتبة كلها من أولها إلى آخرها ، للمرة الثانية ، على ضوء تجربتي
السابقة التي سجلت فيها ما انتقيت فقط من الكتب ، فأخذت أسجل الآن كل ما يتعلق بعلم
الحديث منها مما يفيدني في تخصصي ؛ لا أترك شاردة ولا واردة ، إلا سجلته ، حتى ولو
كانت ورقة واحدة ، ومن كتاب أو جزء مجهول الهوية ! .
وكأن الله تبارك وتعالى
كان يعدّني بذلك كله للمرحلة الثالثة والأخيرة ، وهي دراسة هذه الكتب ، دراسة دقيقة
، واستخراج ما فيها من الحديث النبوي مع دراسة أسانيده وطرقه ، وغير ذلك من الفوائد
.
فإني كنت أثناء المرحلة الثانية ، ألتقط نتفاً من هذه الفوائد التي أعثر عليها
عفواً ، فما كدت أنتهي منها حتى تشبعت بضرورة دراستها كتاباً كتاباً ، وجزءاً جزءاً
.
ولذلك فقد شمرت عن ساعد الجد ، واستأنفت الدراسة للمرة الثالثة ، لا أدع
صحيفة إلا تصفحتها ، ولا ورقة شاردة إلا قرأتها ، واستخرجت منها ما أعثر عليه من
فائدة علمية ، وحديث نبوي شريف ، فتجمع عندي بها نحو أربعين مجلداً ، في كل مجلد
نحو أربعمائة ورقة، في كل ورقة حديث واحد ، معزواً إلى جميع المصادر التي وجدتها
فيها ، مع أسانيده وطرقه ، ورتبت الأحاديث فيها على حروف المعجم ، ومن هذه المجلدات
أغذي كل مؤلفاتي ومشاريعي العلمية ، الأمر الذي يساعدني على التحقيق العلمي ، الذي
لا يتيسر لأكثر أهل العلم ، لا سيما في هذا الزمان الذي قنعوا فيه بالرجوع إلى بعض
المختصرات في علم الحديث وغيره من المطبوعات ! .
فهذه الثروة الحديثية
الضخمة التي توفرت عندي ؛ ما كنت لأحصل عليها لو لم ييسر الله لي هذه الدراسة بحثاً
عن الورقة الضائعة !
فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات )
للعلامة المحدث
: محمد ناصر الدين الألباني
يروي الشيخ العلامة الألباني -رحمه الله تعالى- في
مقدمة كتابه ( فهرس مخطوطات المكتبة الظاهرية) فيقول :
( ولم يكن ليخطر ببالي ،
وضع مثل هذا الفهرس ، لأنه ليس من اختصاصي ، وليس عندي متسع من الوقت ليساعدني عليه
، ولكن الله تبارك وتعالى إذا أراد شيئاً هيّأ أسبابه ، فقد ابتليت بمرض خفيف أصاب
بصري ، منذ أكثر من اثني عشر عاماً ، فنصحني الطبيب المختص بالراحة وترك القراءة
والكتابة والعمل في المهنة ( تصليح الساعات ) مقدار ستة أشهر .
فعملت
بنصيحته أول الأمر ، فتركت ذلك كله نحو أسبوعين ، ثم أخذت نفسي تراودني ، وتزين لي
أن أعمل شيئاً في هذه العطلة المملة ، عملاً لا ينافي بزعمي نصيحته ، فتذكرت رسالة
مخطوطة في المكتبة، اسمها (ذم الملاهي) للحافظ ابن أبي الدنيا ، لم تطبع فيما أعلم
يومئذ ، فقلت : ما المانع من أن أكلف من ينسخها لي ؟ وحتى يتم نسخها ، ويأتي وقت
مقابلتها بالأصل ، يكون قد مضى زمن لا بأس به من الراحة ، فبإمكاني يومئذ مقابلتها
، وهي لا تستدعي جهداً ينافي الوضع الصحي الذي أنا فيه ، ثم أحققها بعد ذلك على مهل
، وأخرج أحاديثها ، ثم نطبعها ، وكل ذلك على فترات لكي لا أشق على نفسي !
فلما
وصل الناسخ إلى منتصف الرسالة ، أبلغني أن فيها نقصاً ، فأمرته بأن يتابع نسخها حتى
ينتهي منها ، ثم قابلتها معه على الأصل ، فتأكدت من النقص الذي أشار إليه ، وأقدره
بأربع صفحات في ورقة واحدة في منتصف الكراس ، فأخذت أفكر فيها ، وكيف يمكنني العثور
عليها ؟ .
والرسالة محفوظة في مجلد من المجلدات الموضوعة في المكتبة تحت
عنوان ( مجاميع ) ، وفي كل مجلد منها على الغالب عديد من الرسائل والكتب ، مختلفة
الخطوط والمواضيع ، والورق لوناً وقياساً ، فقلت في نفسي ، لعل الورقة الضائعة قد
خاطها المجلد سهواً في مجلد آخر ، من هذه المجلدات ! ، فرأيتني مندفعاً بكل رغبة
ونشاط باحثاً عنها فيها ، على التسلسل .
ونسيت أو تناسيت نفسي ، والوضع
الصحي الذي أنا فيه ! .
فإذا ما تذكرته ، لم أعدم ما أتعلل به ، من مثل
القول بأن هذا البحث لا ينافيه ، لأنه لا يصحبه كتابة ولا قراءة مضنية
!.
وما كدت أتجاوز بعض المجلدات ، حتى أخذ يسترعي انتباهي عناوين بعض
الرسائل والمؤلفات ، لمحدثين مشهورين ، وحفاظ معروفين ، فأقف عندها ، باحثاً لها ،
دارساً إياها ، فأتمنى لو أنها تنسخ وتحقق ، ثم تطبع ، ولكني كنت أجدها في غالب
الأحيان ناقصة الأطراف والأجزاء ، فأجد الثاني دون الأول مثلاً ، فلم أندفع
لتسجيلها عندي ، وتابعت البحث عن الورقة الضائعة ، ولكن عبثاً حتى انتهت مجلدات (
المجاميع ) البالغ عددها ( 152) مجلداً ، بيد أني وجدتني في أثناء المتابعة أخذت
أسجل في مسودتي عناوين بعض الكتب التي راقتني ، وشجعني على ذلك ، أنني عثرت في
أثناء البحث فيها على بعض النواقص التي كانت من قبل من الصوارف عن التسجيل
.
ولما لم أعثر على الورقة في المجلدات المذكورة ، قلت في نفسي : لعلها خيطت
خطأ في مجلد من مجلدات الحديث ، والمسجلة في المكتبة تحت عنوان (حديث) !.
فأخذت
أقلبها مجلداً مجلداً ، حتى انتهيت منها دون أن أقف عليها ، لكني سجلت عندي ما شاء
الله من المؤلفات والرسائل .
وهكذا لم أزل أعلل النفس وأمنيها بالحصول على
الورقة ، فأنتقل في البحث عنها بين مجلدات المكتبة ورسائلها من علم إلى آخر ؛ حتى
أتيت على جميع المخطوطات المحفوظة في المكتبة ، والبالغ عددها نحو عشرة آلاف
(10000) مخطوط ، دون أن أحظها بها ! .( قلت : لعلها أحظى بها ) .
ولكني لم
أيأس بعد ، فهناك ما يعرف بـ (الدست) ، وهو عبارة عن مكدسات من الأوراق والكراريس
المتنوعة التي لا يعرف أصلها ، فأخذت في البحث فيها بدقة وعناية ، ولكن دون جدوى
.
وحينئذ يأست من الورقة ، ولكني نظرت فوجدت أن الله تبارك وتعالى قد فتح لي
من ورائها باباً عظيماً من العلم ، طالما كنت غافلاً عنه كغيري ، وهو أن في المكتبة
الظاهرية كنوزاً من الكتب والرسائل في مختلف العلوم النافعة التي خلفها لنا أجدادنا
رحمهم الله تعالى ، وفيها من نوادر المخطوطات التي قد لا توجد في غيرها من المكتبات
العالمية ، مما لم يطبع بعد .
فلما تبين لي ذلك واستحكم في قلبي ، استأنفت
دراسة مخطوطات المكتبة كلها من أولها إلى آخرها ، للمرة الثانية ، على ضوء تجربتي
السابقة التي سجلت فيها ما انتقيت فقط من الكتب ، فأخذت أسجل الآن كل ما يتعلق بعلم
الحديث منها مما يفيدني في تخصصي ؛ لا أترك شاردة ولا واردة ، إلا سجلته ، حتى ولو
كانت ورقة واحدة ، ومن كتاب أو جزء مجهول الهوية ! .
وكأن الله تبارك وتعالى
كان يعدّني بذلك كله للمرحلة الثالثة والأخيرة ، وهي دراسة هذه الكتب ، دراسة دقيقة
، واستخراج ما فيها من الحديث النبوي مع دراسة أسانيده وطرقه ، وغير ذلك من الفوائد
.
فإني كنت أثناء المرحلة الثانية ، ألتقط نتفاً من هذه الفوائد التي أعثر عليها
عفواً ، فما كدت أنتهي منها حتى تشبعت بضرورة دراستها كتاباً كتاباً ، وجزءاً جزءاً
.
ولذلك فقد شمرت عن ساعد الجد ، واستأنفت الدراسة للمرة الثالثة ، لا أدع
صحيفة إلا تصفحتها ، ولا ورقة شاردة إلا قرأتها ، واستخرجت منها ما أعثر عليه من
فائدة علمية ، وحديث نبوي شريف ، فتجمع عندي بها نحو أربعين مجلداً ، في كل مجلد
نحو أربعمائة ورقة، في كل ورقة حديث واحد ، معزواً إلى جميع المصادر التي وجدتها
فيها ، مع أسانيده وطرقه ، ورتبت الأحاديث فيها على حروف المعجم ، ومن هذه المجلدات
أغذي كل مؤلفاتي ومشاريعي العلمية ، الأمر الذي يساعدني على التحقيق العلمي ، الذي
لا يتيسر لأكثر أهل العلم ، لا سيما في هذا الزمان الذي قنعوا فيه بالرجوع إلى بعض
المختصرات في علم الحديث وغيره من المطبوعات ! .
فهذه الثروة الحديثية
الضخمة التي توفرت عندي ؛ ما كنت لأحصل عليها لو لم ييسر الله لي هذه الدراسة بحثاً
عن الورقة الضائعة !
فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات )